لا أزال كلما رأيت تلك القبة الذهبية أشعر أنها تناديني .. تقول لي: “هلمّي ابنتي إليّ”
تلك القبة الذهبية في أشعتها التي تبزغ مع بزوغ الفجر إصراراً وتأكيداً على العودة .
لا أزال أحلم بتذوق الكعك الساخن صباحا من يدين شيخ يقاوم ، يجول الحواري وبين الزقاق قاصدا وجه ربّه .
لم أمش بين زقاقها ، ولم أسمع باعتها ينادون ببضاعتهم ليقتاتوا ليومهم ..
لم أر أسوارها الصامدة ،ولم تطرب مسامعي بأصوات أطفالها،
لكنني وجدتني فيها ؛ فلقد تربّيت على حبها …
أذكر أن صورة لمدينة القدس كانت تزيّن منزلنا .
أذكر مساءات أبي يطرب للأغاني الثوريّة ولصورها على قنوات التلفاز ..
أذكر دمعات أمي منسابة على خديها ودعواتها بأن نعود ..
وحين سألت : ماهذه ؟! أين هي ؟! وأين نعود ؟
تفاجأت بإجابة والدي التي رسخت في مسامعي منذ أن كان عمري خمس سنوات قال لي : هذي القدس بنيتي ، ووضع يده على قلبي …
إجابته كانت أكبر من أن أفهمها في هذا العمر لكنّي عرفت أنّها شيء كبير عظيميوجد في قلبي .
بعدها قالت لي أمي :إنّ القدس عاصمة لدولة فلسطين العربية التي نحن منها وهي لنا ..
وهنا زادت الأسئلة :
أين فلسطين ؟ وكيف للقدس أن تكون عاصمتها وأين نحن منها ؟
هنا قالت لي أمي بلكنة فلاحة بسيطة : “طلعونا منها يما ، غصبن عنا طلعونا وطردونا اليهود من أرضنا بس رح نعود”
ونظرا لحسابات طفلة صغيرة عرفت أن أمي كانت مجبرة على البعد عن قلبها ومع ذلك أحيته فينا كما فيها …
وكلّما كبرت كان حبّي للقدس يكبر أكثر وشغفي للتعرّف عليها يزداد .. وحقدي على الأعداء يتفاقم ..
حتى إنّها صارت المنى وازداد إصراري وتعلّقي بها .
تبقى القدس هويتنا وتبقى ملامحها فينا .. فكلما رأيت صورها أجدنا ..
أجدنا نصلي في المسجد الأقصى ، وأرى أختي تطلب من أبي نقودا لشراء “الترمس” من حواريها ، و أجد أخي يلبس تلك الكوفية الصامدة ..
حتى أنّي أجدني أعلّم أبنائي وأرسلهم الى حلقات تحفيظ القرآن في الأقصى .
حقا لم أجد في القدس إلا ملامح امرأة مغتربة عن أرضها …
ودموع أم تشتاق …
ونضال شهيد مضحّ…
وصوت آذان شيخ يجلجل …
أجدني أحادث محبوبتي القدس أقول لها :
“اسلمي يا غالية ولتصبري يا حانية فالنصر حليفنا وعشاقك منّا والثوار والشيوخ والأطفال لن يتركوك…
هم فقط نائمون الآن يحلمون بجمالك ويحلمون باللقاء …
ولا تعتبي على نومهم الذي قد طال فلا ذنب لمن يتجرع المنومات رغم أنفه ..
فسيأتي الربيع وسيزهر الليمون …”
فعلاً لم أجد في القدس إلّا نحن …
ففي القدس من في القدس لكنّي لا أرى في القدس إلّا نحن .
بقلم
ندى إبراهيم أبوديّه .