يالها من صدفة أن يُولد في كنف التاجر الحلبيّ محمد أمين، فالظروف تخبره في العام 1776 أنه سيعيش عيشة رغيدة إلا أنها لم تنذره بما سيكسر شوكة أبيه، كذلك عن مصيره هو نفسه، فلا أحد يعرف ما كان سيفكر فيه إذا قرأ طالعه المأساوي من إعدامه بتل العقارب، وحول ما إذا كان سيحاول تجنب الظروف التي أجبرته على قتل جان باتسيت كليبر أم لا.
سليمان محمد أمين، أو كما هو متعارف عليه سليمان الحلبي، كان محبًا للترحال، فمن حلب توجه إلى مكة والمدينة وقضى فيهما 3 سنوات، ومثلهم في القاهرة أثناء تعلمه تحت مظلة الأزهر الشريف، قبل أن يعاود ترحاله بعد ذلك إلى القدس وغزة ثم العودة إلى المحروسة.
وخروجه من بلاده للمرة الثانية كانت ما هي إلا وسيلة لإنقاذ أبيه من بطش غرامات والي حلب إبراهيم باشا، وما أن أفضى سليمان بما يجيش بخاطره حول ذلك إلى أحمد أغا، محافظ القدس، كان الحل هو رأس كليبر، والدليل ما حدث بينه وبين ياسين أغا في غزة، والذي رهن مقتل الجنرال الفرنسي برفع الظلم عن أبيه، وهو ما يُسقط القول حول أن دافع الشاب كان من وطنيته، أو كما ذكرت التحقيقات المترجمة معه بجملة منه: “كان مرادي أن أغازي في سبيل الله”.
سليمان الحلبي ذكي ومنظم، ووضح ذلك من تفكيره العميق في اختيار مكان تنفيذ خطته، وكذلك من معرفة مكان تواجد كليبر، فبعد أن عرف مقر إقامته بقصر مراد بك الكائن بالجيزة تمكن من معرفة خط سيره وموعد كل خطوة يخطوها، وهو ما دفع الحُراس إلى سؤاله حول سبب كل هذه الاستفسارات، فرد بأنه صاحب شكوى.
يُشاع عنه أنه كتوم، قليل الكلام، حتى لم يترك خلفه أي أوراق تحكي عن أحواله، لكن الواقع مغاير، فبعد اتفاقه مع كلٍ من أحمد وياسين أغا على خطته حثاه على السرية، لكنه أفضى بكل التفاصيل إلى زملائه في الأزهر الشريف، وكانت المصيبة الأكبر أنه حُكم على رفاقه بضرب رؤوسهم بسبب معرفتهم ما كان ينوي له ولم يبلغوا القوات الفرنسية عنه.
الأحوال المادية كانت تضعفه، فمظهره كان مزدري وتكسو رأسه عمامة خضراء، حتى أن كليبر تعامل معه على أنه شحاذ قبل أن يطعنه، فقال له: “مفيش” ظنًا منه أنه يطلب المال، كذلك أتى سليمان إلى القاهرة ولا يملك سوى 40 قرشًا أخذهم من ياسين أغا، بذلك هو مطحون في الشكل والمضمون، وقال عنه الجبرتي بخصوص ذلك: “لو كانت معه فدية فإن أحدًا لم يكن ليقبل فيه فدية”.
الحلبي يكره الظلم، عنيد، يتمسك بما يقتنع به في أصعب الظروف، وهو ما اتضح أثناء تنفيذ محافظ القاهرة اليوناني “بارتليمي” حكم الإعدام عليه –حرق يده اليمنى ثم وضعه على خازوق- حاول أن يوصل ألسنة اللهب إلى مرفقه، وهو ما رفضه سليمان بشدة وحاول الاشتباك معه، حتى سبه بأنه “كلب”.
مقاومته استمرت مع بدء دق الخازوق الحديدي في فتحة شرجه، فطلب شرب الماء إلا أن اليوناني رفض، فقد رأى أنه يسعى للهروب من العذاب لأن أي قطرة ماء مع الحالة التي عليها تنهي حياته مباشرة دون أن يشعر بالألم، وهو ما لا يريده الغازون لصاحب الـ24 عامًا.
إذًا الماديات دفعته لذلك، لكنه بمرور الزمن تحولت سيرته إلى واحدٍ من ثلاث، الأول أنه وطني سعى لرفع الظلم، فحتى يومنا هذا يطالب البعض بإزالة اللافتة الموضوعة على جمجمته بمتحف “أنفاليد” بفرنسا، والمكتوب عليها “المجرم”، والثاني هو مجرد السخرية من نهايته على “خازوق”، أما الأخير هو وصف الجبرتي له بأنه “أفاق أهوج”.