ساعة الغروب، لحظة تمخض السواد، لحظة انقشاع النور، لحظة وداع الشمس، وقفت في شرفتي المطلة علي الحديقة، الجو هادئ، يبعث علي النفس الاتآد، وقفت اتأمل هذا المنظر البهيج، اخرجت لفافة تبغ، مؤخرتها كمؤخرة القرد، دسستها بين شفتاي، و ما إن اشعلتها حتي اهتاجت الأفكار كالبخار، اطلقت العنان لما برأسي، تذكرت الحبيبة التي تعلقت بها، تذكرت الأصدقاء الذين أساءوا إليّ، تذكرت الشقيق الذي تخلي عني، تذكرت الجار المسئ، تذكرت جحود الاقارب، لا أعلم……. لو كنت فظًا غليظًا، حاقدًا ناكرًا، حاسدًا خائنًا أكان ذلك أفضل؟ أم أن رداء الأخلاق القويمة أصبح مجرد (موضة) قديمة، تلفت الأنظار لكونها غريبة لا جميلة، قتلنا الصدق، و كفناها بجوار الامانة، و دفناهما بجوار المحبة، و أغلقنا عليهم مقبرة الاخلاق، عظمنا الظالم، و صدقنا الكاذب، و امنّا الخائن.
انهيت العقب الأول، فالثاني ، فالثالث، حتي شيدت قلعة من الفلاتر علي قاعدة المطفأة، دخلت في منتصف الليل و أنا لا أزال علي موضعي، كل ما تغير هو أني تجردت من كل ما ارتدي، باستثناء ما يستر خصري، حيث أنني أتصبب عرقاً لهول الحرارة، دلفت إلي الخلاء حتي أنتعش ببعض المياه، و لكن في هذه الظروف يتحول العرق إلي مرض مزمن يصعب أو يستحيل التخلص منه، بعد أن تفرغت مما كنت اقوم به جلست علي الأريكة المهتوك عرضها، قمت بتشغيل التلفاز بعد ان احييته من مقبرته، حيث أنني كنت قد قررت العزلة عن عالم شيمته البؤس، وجدت احد خبراء الأرصاد الجوية يتلو علي مسامعنا توقعات بدرجات الحرارة، قائلاً بأنه من اليوم سوف تضرب البلاد موجة حارة لمدة ثلاثة أيام، تتراوح درجات الحرارة فيها ما بين ثلاثين إلي أربعين درجة سيليزية، في هذه اللحظة اعدت التلفاز إلي المقبرة التي انتشلته منها، عدت إلي قواعدي بالشرفة، قررت بناء قلعة جديدة من الفلاتر بجوار الأولي، دارشريط الأفكار، استسلمت للتساؤلات، ما الفرق بين الدرجة السيليزية و الفهرنهيتية؟ هل تعلمنا في المدارس الفرق بينهما؟ ادرت شريط الذكريات، تذكرت بأنني تعلمت أشياء عديدة تفوق التساؤلات التي سلبت عقلي الآن، تعلمت في المدرسة السُباب، والسرقات، و قانون البلطجة، تعلمت إشباع الشهوات لا كبتها، تعلمت هذه العادة السيئة التي لا استطيع العزوف عنها، كانوا يملؤن الفِناء بصور شمشون، فتعلمت فرائض عبادته، قانون الأختلاف رفضه المشرّعون، و العدالة حُددت إقامتها، و التعددية تناثرت في شتي البلاد، و الإنتحار كان خيار الحرية، و لم يبقي لنا في بلدنا التليدة سوي قانون الغاب.
كأكأت الديوك، و زقزقت الطيور، و تفتحت الأزهار، و قامت الشمس في عزّة، و تعالت الرياح في تباهيها، و السماء مصفّاة كاللبن، الجو يبعث إليّ النشاط، بعيداً عمّا كان بي من الليلة الفائتة، أغتسلت مما عم بي من البارحة، و هذبت هيئتي المهترئة، حيث أن شكلي غير ملائم للمكان الفسيح الذي أسكن فيه، وحدي، رجعت إلي الشرفة التي بت فيها، تناولت ما هَرِمَ من الطعام، لا أعرف له طعم و لا رائحة، لو كان جسداً لتحلل، صوبت نظرة مستقيمة، فوقع شعاع الرؤية علي المنزل المقابل، كان يملكه شخص لا داعي لأتذكر اسمه، وافته المنية منذ شهور، كان يقابلني بمنتهي الترحاب، يفتح عليّ صنبور المدح، ابتسامته لي اعرض من فحول الرجال، يثني عليّ بداعي و من غير داعي، و علي عكس هذا كله، كان يلقي القمامة أمام منزلي، ينشر عليّ الأكاذيب في أرجاء الحي، يطلق عليّ سِهام الغدر في أشد الأوقات، إنه عصر النفاق، تتعدد فيه الوجوه، تكاد لا تميز بين الصادق و الكاذب، أمام عيناك، يرتدي قناع الأبتسامة، و من خلفك يطلق عليك رصاصات اللعاب، إنكم لفي الدرك الأسفل…..، فكيف بعد كل تلك الأمراض، ننتظر أن يطلّ علينا الخير ببريقة؟ و أن ينعم علينا بعطاياه؟ و أن يُسقينا من كوثره؟!!!!