تَعجبُ من نفسها .. فهي لا تزال تشعر بالذل كلّما مرّ أحد وهي تمسح أرضية المطبخ ؛ فهذه ليست المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك، ولا تعتقد بأنّها ستكون الأخيرة !. لقد مسحت الأرض مئات المرات وكانت تتلقى الشتائم في بعضها ؛ لأنّ المدام تجد آثار أقدام على الأرض. لم تكن تجرؤ على إخبارها أنّ السيد ابنها هو من ترك تلك الآثار بعد ان انتهت تواً من تنظيف الأرض، وأن المدام دخلت قبل أن تتمكن من تنظيفها مجدداً.
تقول لنفسها مواسيةً وهي تنكبّ على الأرض تنظفها : أنا أشرب كأس ماء .. أنا أشرب كأس ماء ؛ تريد أن يكون مسح الأرضية شيئاً طبيعياً في حياتها كشرب الماء. لكنّها لا تقدر ، لماذا لا تقدر !؟ ، لا يحقّ لها بأن لا تقدر ؛ هي مجرد آلة : تقوم بالأعمال حين يطلب منها .. وتنام حين يطلب منها .. وتبتسم ايضا حين يطلب منها ! . هم يرونها هكذا ، وهي تشعر بأنّ عليها أن تكون هكذا .. لكنّها .. لا تقدر .. !
لم تكن تشعر بالذلّ في بيت والداها مع احتقارها ومقتها له. كان يَضرٍبها أحيانا ويرمي بها خارج الدار أحياناً أخرى. لكنّها لم تكن تكترث ؛ لأنّها تستطيع أن تقول: ” لا ” متى أرادت ، تستطيع أن تصرخ، أن تشتم عيشتها. تستطيع أن تكره والداها أو تحبّه !، أن تمسح الأرض أو تتركها متّسخة، تستطيع الهرب لبيت جدّتها. أمّا الآن .. لا تستطيع الخروج الا لرمي القمامة ، ولا تستطيع أن تنطق إلّا بـ : حاضر مدام ، سأفعل حالاً ، لم يبق سوى القليل. وتأخذ راتبها في نهاية الشهر وهي تتسائل إن كان ذلّها المكبوت واحتقارها لنفسها يساوي تلك الدنانير المعدودة ؟!
عليها أنّ تنظف الأرضية جيداً. تُردد : أنا أرتدي ثيابي .. أنا أرتدي ثيابي ، وتنكبّ على الأرض تنظفها من جديد. تتمنى لو تشعر بأنّ الأمر طبيعي كأنّها ترتدي ثيابها .. لكنّ شعورها بالذلّ يبقى سوسة تنخر قلبها من الداخل حيث لا يصل صوتُها.
لا زالت تذكر أول أيام عملها، حين دعت المدام بعض الضيوف وسألتها برقةّ أمام الجميع إن كانت تريد أن تسكب لها طبقاً فابتسمت بحياء ورفضت ؛ فكل تلك الأصناف الفاخرة كانت أكبر من أن تشتهيها أو تتخيلها حتى ! لم تكن تعلم أن المدام كانت تمثل دور ملاك الرحمة أمام ضيوفها وأنها عندما يغادرون ستمنعها من الاقتراب من بقايا ذاك الطعام الفاخر . لم تكن تعلم .. لكنّها الآن تعلم ، تعلم أنّها لا شيء ، أو ربما اقل ! ؛ فاللاشيء لا أحد يهينه أمّا هي فالكل يستمتع بإهانتها.
لم تعد تلك الطفلة التي لا تعلم عن الحياة شيئاً ، تحاول أن تقنع نفسها بذلك، لقد رمت بمشاعرها بعيداً جداً، أحرقتهم بنيران موقد المدام ، الذي هددتها ذات يوم بأنها ستحرقها فيه … إنّها آلة كما يرونها تماماً ! .. سوسة الذل لا تزال تنخر في قلبها وتخبرها بأنّها كاذبة. قلبها لا يزال مرهفا يشتاق لحضن أمّها ، يشتاق لبسمةٍ يرميها غريبٌ في وجهها ، يشتاق ليدين دافئتين تشدّان على يديها …
لم تعد تحتمل، هناك مياه تخرجُ من عينيها، كيف تملك تلك المياه الوقاحة كي تنزل من عينيها .. إنّها لا تجرؤ على أن تسميها دموعاً. أمسكت بالدلو وبدأت ترش المياه هنا وهناك لتخفي جريمتها !، تسمع صوت أقدام المدام تعود لتنظف الأرضية بسرعة. تدخل المدام وتسألها : لماذا تأخّرت!؟ فتردّ الآلة : أعتذر، سأنتهي منها بسرعة ، تصرخ المدام فيها : أنظري إلي وأنتِ تتكلمين – وتضيف بسخرية : – أم أنني لا أناسب مستواك !. تظل الفتاة مطأطأةً رأسها ، تصرخ المدام فيها كي ترفع رأسها ، فتفعل، تنظرُ المدام إليها وتقول بدهشة : أتبكين !؟ ثم تطلق ضحكة مجلجلة وتسرع لتنادي باقي أفراد العائلة كي لا يفوتوا ذلك المنظر العجيب.
عيناها لا تستطيع أن تصدّق ما رأتْ ! .. فكيف !؟ .. كيفَ تبكي الآلة !؟.
https://www.facebook.com/writer.lubab