حينَ تمردّ قلبها وخفق ، ما كان لها الخِيرةُ من أمرِها !
وقفتْ مَشدوهةً تنظرُ إلى خفة حركته ، كيف استطاعَ بحرفٍ أصم أن يلعب بأحجارِ قلبها – على رقعتهِ هو – حَجراً تلو الآخر ، كَافّاً إيّاها عن أيِّ ردٍّ تُبديهِ أو حَرفٍ تُلقيه بين زحام حروفه .
لا تعرفُ أبداً ، لمَ وكيفَ ؟ وهل ؟ لماذا ؟ أم متى ؟
تَعلمُ فقط ، أنّه سكن خواءً لا نبتَ فيه ، دون أن يُرهقها بتذّمر ٍ ! ثم أحاله جَنّة بمقدمه ..
أوجسَت منه خيفة ً حين رَمقته وهو نَاظرٌ إليها يبتسم ! ، فقالت :
– ما كنتُ لأستقبلَ عابراً أضلّ سبيله ، وأوحشته الأمكِنة ، فما وَجد سوى قَلبي !
– وما كنتُ لأسأل إنْ كان قلبك سامحاً لي بسُكناه !
– لا تملكُه ، لتسكنه عنوة هكذا !
– ولا أنتِ بمالكة له أيضاً ،
هُو لمنْ أطلّ عليه فرآه كَوناً عامراً بهِ لا بسواه ،
هو لمنْ أتاهُ على غيرِ هُدى ، فما عرفَ الهُدى إلا حين رآه !
هُو لمن أحسّ بصوتهِ نابضاً في فراغٍ ، وما رأى المَالِئ إلّاه ..
هُو لمن أسرعَ فاستوطنه ، لا لمن تراخى فاستمهله ! ..
ما وجدت أمامَ كلامه حِيلاً لتِحيكها ، استَجدت كُلّ حرفٍ عهدتُه ، كُلّ تَعبير تَعلّمته ، فما أعانها أحدٌ عليه !
وكأنّ الحروفُ تأبى إلا أنْ يكون عُنواناً لها ، وهي لا تُريدُ أن تعرف حتّى ، فيمَ إنْ كانت تُريده أم لا ! ..
مضت بحيرتها تَتخبّط ، ومَضى مُكبّاً على وجهه ، سائراً إلى حيثُ لا يعلم !
ظنّها ذهبتْ وقد لفظتهُ خارجَ دائرتها ، وما أولتْهُ بضعَ اهتمام !
وظنّتهُ عابثاً ، لا يَلبثُ أن يأتيَ وَلِهاً ، حتى يأفلَ مُفارقاً !
وبين ما ظنّها وما ظنّتهُ ، سُحبٌ أمطَرته وَجعاً ، ومُقلةٌ أفاضتْ خدّها حَسرةً !
كيف تَصوغ لهُ من الحروف أن ارجعْ ! ما أردتُ لكَ رحيلاً ! كيف تُبين له ، عَمّا لا يُبان !
قد ذَهب ، وما كَلّف نَفسه عناء محاولةٍ أخرى ! حاولتْ أن تذرفه دَمعاً ، أنْ تنقضَ غزلهُ الذي اشتبكَ مع كُلّ شيءٍ فيها ، أن تُقحِم فِكرها في أيِّ شيء غيره ، فما وَجدت إلا التّعب ! ..
ما كان حالهُ أفضلَ منها !
اجتمعَ قلبه وعقله – على غيرِ عادةٍ – ليَحُلّا عُقدة قلبها !
كيفَ استطاعت أن تواريَ نفسها مِنّي !
هل ذاك الصَدّ يُؤرقها ؟ واللهِ إنّه أرّقني !
كُلّ أفكاري تأنُّ !
أدمُعي كادت تُجنُّ !
أيّ طُهر قد حواكِ ، وانتقاكِ دُون غيركِ في الورى ،أي حَظّ كان لي حتى أراكِ !
هامَ في خيالاته ، وأبحَر في مَوج ٍ لا يَهدأ ، استغرقَ في أن يفهم إعراضها شُهوراً أعَيتهُ وأعيتْها !
ما كان لهُ أن يَتركَ ضَالّته التي وَجدها بعد تعب ِ مسير !
ما كان لهُ أن يَمشي للجهة الأخرى مُتجاهلاً الذي وُلد بينهما على عجل !
ذاك أرقى ، وأطهرُ ، وأنقى ، وأجملُ من أن يُترك على قارعة الطّريق مَنبوذاً !
لَملمَ نَفسه ، ونثَر شَتات رُوحه كالنّجوم لِيجمعها ، لا زال يَنبضُ بقلبها ، ولا زالت بقلبهِ كذلك تحيا ..
هِي ما أعرَضت عن مَرضه هُنيهة ، حاولت أنْ تَجد لها شِفاءً منه ، جُرعة ً زائدة من فَرط الإهمال لِتنسى ! فما زادها ذاكَ إلّا حُمىًّ فيه ..
كانتْ الأجواءُ صيفية مُلهَبة ، كَيف لا ! وشَهرُ آب يَتربّع في صدراة التّقويم .. أطرقتْ رأسها مُتعبةً ، حاولتْ كَفّ الضّجيجُ المُتزايدِ في رُوحها ، أرادتْ فقط أن تستمع لدّقاتِ قلبها ، أو لربّما هُو (قلبه) السّاكن فيها .. هَمّت بأخذِ قيلولة ، لولا أنْ سَمعتْ البابَ يُطرق !
ما كانَ بوّدها أنْ تستقبل أحداً ، لا أنْ تَحكيَ ولا أن تَفعلَ أيّ شيءٍ آخر ، حَملتْ جَسدها المُتعبَ بخُطىً متثاقلة ، وقالت :
– من هُنا بالباب ؟
.. سَمعتْ صَوتَ بحةٍ ، كَصوتِ البّحة تلك خَاصته ! ما استطاعَ عقلها أنْ يحوي فكرة أنّه هو ، ذاك الذي ذهب دُون أنْ يتركَ بذرة لِتحيا .. !
قالت في نَفسها :
– خُيّل إليكِ يا مرام ، من أين سيأتيكِ الآن ! هيه ! صهْ يا قلبُ ، أخرجهُ منكَ ، كفى !!
أعادتْ سُؤلها بشفتين تَرتجفان ، وقَلبُها ذاك المُتمَرّد ما انفكّ يتقافزُ في صدرها ، يَقول لها : هو ، وتقولُ له : اصمتْ ، كفاك !
– مُن هُنا بالباب ؟؟
– إنّي أنا ..
ذاكَ الذي خَبّأتهِ زَمناً ، فما استطاعَ أنْ يَبقى عن الوَرى مَخفياً !
ما كُنتُ لأترك قلباً مَلّكتهُ عُمري ، ومَلّكني نَبضه .. فافتحي ، إني أريد أباكِ.