وصية للصحفيين
صوروا الدماء قبل أن تجف ، فهناك الكثير ممن لا زال في قلبه شك .. من حقيقة المجازر ، ويصفها بالمبالغة حين نخبره عن هول المشهد.
صوروا الطفل الجريح وهم ينتشلوه من تحت آلاف من أطنان الركام والحديد ، صوروه من البيت إلى أن تضعوه في الإسعاف على الوسادة ، ولا تسمحوا لأحد أن يلتقط معه صوراً للذكرى فقد مللنا صور الحروب والدمار فكيف بصور القتلى الصغار.
وثقوا لحظة ارتطام الصاروخ بالبناية ، ومن الأفضل أن يكون التصوير من عدة زواية ، فمن المهم أن نجمع الأشلاء في التصوير ، بعد أن عجز المسعفون عن جمعها في تابوت ، فقرروا أن يجمعوا الأعضاء ويحصوها ، و يوزعوها في كل قبر يدان وقدمان ، ويتساوى في ذلك النساء والرجال والشيوخ والشبان ، فمن الصعب تمييزها وقد شوهتها النيران .
سجلوا أصوات الاستغاثة ، لعائلة سقطت عليها العمارة ، صوروهم حين يخرجون وقد غطى التراب ملامحهم ، فلا يستطيع من يشاهدهم أن يتعرف عليهم ، ولا أن يذكر اسم احد منهم ، ليكتفِ بقوله ” إنسان ” يخرج حياً من تحت الأنقاض ، لعل هذا التجريد الذي ذكر في وصفه ، يجرده من التهم التي كانت سبباً في محاولة قتله، واذ لم يخرج أحد اخبروا المحطات كالعادة ، ليضعوا الخبر في الشريط أسفل الشاشة .
صوروا الجثث الملقاة في الشوارع ، التي لم يعد أحد يحملها للمشفى لوضعها في الثلاجة ، لعدم وجود شاغر ، فكل شيء أصبح مزدحم ، المخيمات والنازحين وطابور الخبز ، حتى الموت دخل الحسد فيه ، خصوصاً حين يجد صاحبه مكاناً شاغراً يحفظ فيه ، أو تكون دفنته سريعة ، حينها يترحم عليه الحاضرون ، من قلوبهم ، لا لشيء إلا لأنه لم يتعبهم كثيراً ، فالناس اليوم فقدوا الحياة والممات معاً ، ولكنهم مازالوا يحتفظون بشيء من الكرامة .
قفوا فوق رأس الجريح ، صوروه وهو يلفظ الشهادة ، وصوروا تلك الابتسامة وانظروا على السبابة وإذا شعرتم بروحه تُقبض ، وببرود يُصلب جسده ، والدم مازال يتدفق من جرحه ، أغلقوا عينيه ، ثم قبّلوا جبينه ، ودونوا في إحصائياتكم أن زاد شهيد ، ولا تهتموا لاسمه ! فمذ زمن أصبح قتلانا مجرد أرقام لكثرتهم ، ولقتلاهم وآسراهم أسماء لندرتهم .
تقدم أكثر وصور الأم الممددة على الرصيف التي تحتضن الرضيع ، لاتأخذ الطفل منها ، فتقتلها قتلةً أشد من الأولى ، حين تحرمها من وداع ابنها الصغير ، اتركها تودعه ، توصيه ، تدفئه ، فبعدها سيواجه الحياة دون أم ، دون دفء، دون معطف يحميه من بردِ الصقيع . وأجيبوا على من يسأل كيف يولد الرجال : شهدتم الآن ولادة ، عندما غادر الرضيع حضن أمه ولم يبلغ بعد فطامه.
امسحوا الآن دموعكم فلم أعد أستطيع ذكر تفاصيل مشهد آخر ، فالورق الذي أكتب عليه قد تبلل وسيتمزق أن ذكرت شهيد آخر . هذه ليست النهاية .. استعدوا كل يوم لمشهد آخـر .