جالساً في الحديقة العامّة تحتَ قطراتِ المطرِ، محتمياً بمظلته و مستنداً إلى عمود الكهرباء القابع كسدّ خلف الكرسيّ المهترئة أطرافه.
جالساً و سابحاً في دنيا أخرى لا يعلمُ إلا القليلَ عن تفاصيلها، تقريباً بمقدار ما يعلمه عن دنياه الأولى.
جالساً لا يفكّر، لا يمسك كوباً من القهوة الساخنة و لا سيجارةً شارفت على الانطفاء، جالساً هناك بعينين تجوبان الفراغ و تمشطانه بحثاً عن المزيد من الفراغ.
يداه قد انصبغتا باللون الأحمر الذي يكشف محاولة جسده إنقاذهما من الصقيع الذي يلفّهما. يمسك المظلة بواحدة و يجلسُ على الأخرى علّه يخفف من قرصة البرد، و ينقل المظلّة كلّ بضع من الدقائق من الأولى إلى أختها.
كانتْ المظلّة تنثر المطر من فوقه إلى جميع الجهات فلا يرى الأشياء حوله إلا عبر حبات الماء.
يخبّئ قدميه في حذاءٍ من النوعِ الذي يحتاج اقتناؤه ثروةً، فيريحُهما في غياباته بينما تطرق المياه سطحه بقوّة.
جالساً هناك، يعتقد أنّه يستمعُ إلى موسيقى يصنعها المطر، جالساً هناك يتمنّى أنه من أسره قد تحرّر.
يجد المزيد من الفراغ في العالم الذي كان يجوبه، و يجدُ تشابهاً كبيراً بينه و بين حياته.
يذكر ذلك اللغز الذي كان أستاذه في المدرسة، لسبب ما، يطرحه في اليوم الأول من كل عام دراسيّ “ما هو الشيء الذي كلّما أخذت منه كبُر؟”
أابتسامةٌ تلك التي ارتسمتْ على شفتيه؟
إذا كانتْ الحفرةُ هي الشيء الذي يكبر كلّما أُخذ منه، فإنّ حياته هي الشيء الذي يصغر كلّما أُضيف إليه.
يمضي في طرح الأسئلة على ذاته.
تُرى هل يحدّقُ فيه الفراغ أيضاً؟ هل يفكّر أن يحدّثه و يخبره أنّه ملّ السكنَ في نفسه و بين جنباته؟
و هل يجلسُ مثله وحيداً تحت المطر، بثياب تدلّ على الثراء و حياةٍ تدلّ على الخواء؟
أخرجه استمرار تساقط المطر من تساؤلاته تلك و رمى عليه سؤالاً تردّد قبل الإجابة عليه.
يعود إلى دنياه، يتساءل: أصحيحٌ ما قيل أنّ كلّ أولئك الذين يحرّكون أقدامهم بتوتّر خلال جلوسهم إنّما يفعلون ذلك لا إرادياً و يغلّفون به انتقالهم السريع المتلاحق بين دنياهم و الدنيا الأخرى؟
يهتز، لا يزال يهتز، يقمع نفسه حين تسأله عن السبب ثم يخبرها أن اهتزازه ما هو بردٌ أحاطَ باطرافه في هذه الحديقة المهملة.
يتذكرُ أغنيةً سمعها قبل عدّة أيامٍ عبر المذياع، و يتذكرُ كيف كان بإمكانه أن يرى الدموع تستقلّ الكلمات، و تُحيل الألحان المنسابةَ أنهُراً غزيرةً من الدموع.
لا يزالُ يبتسمُ كلّما مرّ على ذكرها.
يذكر النقاش الذي دار بينه و بينها حول الأغاني الحزينة فيحاولُ الابتسام لكنّ شفتيه الزرقاوين تعجزان عن ذلك و تخذلانه.
يهيؤ إليه أن الفراغ يهز رأسه متذكّراً ذلك النقاش هو الآخر، فيُسكته و يجعله يعترف أنّه لم يكنْ يشاركهما جلساتهما الحميمة..حرامٌ على الفراغ هما..بكلامهما و جلساتهما بابتساماتهما و همساتهما..أو هكذا اعتقد.
يتجاهل المطر وجوده و يكمل سقوطه بنفس الغزارة، و كذا تفعل الحديقة بينما تُحسنُ استضافة المطر بكلّ شجرةٍ و غصنٍ و ورقة، بكلّ عمودِ إنارةٍ و مقعد، بكلّ قطّة و جحر نمل.
لمَ يحسٌّ في كل مكان يحلّ فيه أنّه ضيفٌ غير مرغوب فيه؟ أنّه لونٌ زائدٌ على ألوان اللوحة، و كلمةٌ زائدةٌ على كلمات القصيدة.
لمَ يسهل على الجميع تجاهله و يصعب عليه تجاهلهم؟
يفتقد ذلك الشعور، أن يكونَ محتاجاً من قبل من حوله من الناس، أن يكونَ لاعباً أساسياً في حيواتهم و أنْ يشكّل غيابه بعض الغياب، أنْ يكونَ أكثرَ من ظلّ و أثقلَ من ريشة في الهواء.
يحاول أن يستعيدَ بذاكرته الشعور بالامتلاء الذي لم يشعر به منذ سنوات، لكن عبثاً يحاول.
ثمّ و ككل مرّة، يترك كلّ الأسئلة بلا إجابة، يغلق أبواب المواضيع قبل انتهائها، و يقرّر عدم الاستماع حتى النهاية.
يهمّ بالمغادرة فيُغلق مظلّته بعد أن أبعدها عن جسده، و يُحكمُ إغلاقَ أزرار معطفه الجلديّ ثمّ يتأكّد أنّه لم يفقد جهازه الخليوي أو محفظته، و يقف ليسير باتجاه سيارته.
ما هي إلا دقائق حتى لحق به الفراغ و قد أصبحَ أصغر و أقلّ سواداً و قفز ليستقرّ على ظهره.
يحاول بينما يقترب من بوّابة الحديقة الإجابة على سؤال المطر ذاك الذي تهرّب منه قبل دقائق، و يصرّ في نفسه أنّ الأغاني الصاخبة هي الأشدّ تعبيراً عن الحزن.
يحرّك سيارته مبتعداً، فيعزف المطر القطع الأخيرةَ من معزوفته و يهمّ بالمغادرة.