رحلةُ قَلب
في إِحدى ليالي الشتاءِ الباردة و أثناءَ قصفِ الرعد , قُطعت الكهرَباء في منزلنا و لم يكن حينها سواي أنا في المنزل أجلسُ قرب المدفأةِ وأقرأ كتاباً , و إذ بشاشةِ التلفاز تُفتح وحدها !! نظرتُ إليها و إذ بي أرى أُناساً تقتل وأطفالاً تذبح ومنازل تهدم و مصاحف تحرق و رجالاً تُؤسر و نساءً تصرخ و قنابل تقذف و رصاصاً يخترق الشباب كأنه مطرٌ عشق أجسادهم الطاهرة فسارع الخطى إليها فترى في أجسادهم التي تأبى الخضوع ثقوباً لا تعد لكثرتها , ثقوباً أحدثها رصاصُ محتلٍ كافر حاقد .
أصابني الفزَعُ الشديد إذ كيف يضيئ التلفاز وحده ! و الكهرباء قد قطعت ؟! ومما زاد فزعي أكثر صوت الرعد الذي لا زال يزأر خارجاً , فشعرت كما لو أنه يضرب منزلي و منازل أهل الحي غضباً وسخطاً لما يحدث في أرضنا الحبيبة فلسطين , حاولت أن أُهدّأ نفسي إلا أنه و بعد هُنيهة توقف صوت الرعد لأسمع صوت فتاةٍ حزينة يكاد صوت دموعها يطغى على صوتها .
وقفت أصغي لعلي أفهم ما تقول وإذ بي أسمعها تناديني , تبعت مصدر الصوت حتى وصلت إلى الباب الخارجي لمنزلنا نظرت بإمعانٍ لمعرفة صاحب ذالك الصوت , فإذا بها فتاة صغيرة , تلبس ملابساً بيضاء كبياض الثلج شعرها أسود داكنٌ كسواد الليل , تعجبت لأمرها ! فسألتها مستفسرة لماذا تناديني ؟ فقالت بصوت يملؤه الألم والحزن : أريدك أن تذهبي معي وستعرفين بعدها ما أريد ؟
أغلقت باب المنزل وذهبت إليها فقالت لي : هيا أمسكي يدي . أمسكت يديها باستغراب شديد ! إلّا أن دفء يديها رغم برودة الجو أنساني دهشتي واستغرابي , سرنا بعد ذلك إلى الأمام بضعة أمتار ثم بدأنا بالإرتفاع عن سطح الأرض وسط استغراب و تعجب سيطرا علي تصحبهما علامات الذهول والدهشة التي ارتسمت على محياي كلمح البصر , و رغم كل ذلك لم أسألها شيئا يتعلق بارتفاعنا المريب عن سطح الأرض و أجهل السبب في ذلك .
بقينا في الجو مدة لا بأس بها , محلقين بين الغيوم و قطرات المطر , ثم بدأنا بالهبوط رويداً رويداً إلا أن وصلنا الأرض ثانية , لكننا هذه المرة كنا في بقعة مختلة , بقعة لا أعرفها ولم يسبق أن زرتها من قبل , بدأنا سيرنا في الأرجاء فرأيت برفقتها ما لم أتوقع أن أراه على حقيقته يوما , رأيت اليهود الغاصبين الحاقدين وهم يقتلون و يذبحون ويهدمون و يحرقون دون أدنى رحمة , رأيت الأشلاء , رأيت الدماء , رأيت الهدم والدمار .. , عرفت حينها أننا على ثرى الأرض الحبيبة المقدسة , إننا على ثرى فلسطينَ حقاً بعد أن كان ذاك مجرد حلمٍ نلجأ للنوم لنحلّقَ إليه .
عندها تملكتني أحاسيس ومشاعر متضاربة ؛ فينتابني شعور بالفرحة والسعادة لأنني فوق الثرى الطاهر تارةً و تارة أخرى يغمرني الحزن و الأسى و الحرقة ألماً على من يُقتلون و يُذبحون في كل ليلة على أيدي الصهاينة الغاصبين , كنت أُحس هناك بنبض القلوب و حرارة الدماء تملؤُ الأرجاء , تملؤُ الطرقات وكل الأزقات حتى الجدران هناك كانت تهمس و تبكي حرقةً و ألم , أكملت مسيري برفقة تلك الفتاة ورأيت العجب العجاب مما تضيق النفس به , كانت تمزقني أنات اليتامى وصرخات الأيامى و شهقات الثكالى و زئير الأسرى و ما كان باليد حيلةً غيرَ اعتصار آهات الندم !!
أثناء مسيرنا سمعنا فجأة صوتاً حزيناً لا يكف عن البكاء اقتربنا منه أكثر فإذا هو المسجد الأقصى يبكي و ينادي , سألته بذهول – متعجبةً من قدرته على الكلام – ما بك يا أقصانا الحبيب ؟ ما الذي يبكيك ؟
– فأجاب بصوت أجشٍّ أرهقه البكاء والنداء : وتسألين ما بي ! تسألين عما يبكيني ! ألا ترين أن اليهود يدمرونني ويشوهون أرضي و يغتصبونني كلما سنحت لهم الفرصة و كلما غفل عني حراسي من أبنائي فيقتلون بعضا منهم ويشردون البعض ويخطفون عقول آخرين , تسألين عن ألمي والحاقدون يقتلعون زيتوني ويقيدونني بالسلاسل الشديدة بل وصلت بهم الدناءة أن يمتهنوا كلام ربي فوق أرضي المباركة تسألين عن حالي وفؤادي غزةُ هاشمٍ تُحرق وتُنهش ويُصب حقد الغاصب عليها صبا , و ما إن أكمل الأقصى كلمته الأخيرة حتى أجهش باكيا فلم يزل يبكي وينادي أبناءه ويبكي وينادي …
لم أتمالك نفسي حينها فبدأت أبكي معه و أقول في نفسي : من يسمعك يا أقصانا ؟ من يسمعك ؟ فأبناؤك جعلوا أصابعهم في ءاذانهم و استغشوا ثيابهم وغرقوا في لهوهم وسباتهم , فمنهم من أشغلته نفسه و أغرته دنياه , ومنهم من تنازل و باع ومنهم من استوطن الخوف قلبه فما عاد المحتل يخشاه , لكن .. لكنّ طائفة منهم ما تزال تحمل قلوبا طاهرة نقية محبة قلوباً متلهفةً توّاقة للقاء , لا شك أنهم سمعوا النداء وبادروا بتجهيز العدة والعتاد فهم للقدس عاشقون وبمسرى رسول الله متيمون فعسى أن يوقظ المحبون الغافلين , لنشد الرحال ونصلي جميعا في باحتك يا أقصانا الحبيب .
في تلك اللحظات قالت لي الفتاة الصغيرة : الان تعرفين لماذا أحضرتك إلى هنا ؟! وما الذي كنت أريده منك ؟
اما الان فقد حان وقت عودتك إلى المنزل , أمسكت يَديها بكل ما أُوتيتُ من قوة و تشبثتُ بشجرةٍ كانت قد أظلتنا بظلها الحاني بعد أن ضربت بجذورها في الأرض فانتصبت شامخةً في الثرى الطاهر المبارك تأبى الذل و الهوان , وبدأت بصوت أجشٍّ أصرخُ وأنادي المسجد الأقصى صرختُ رافضةً العودة طالبةً البقاء , لكنّ صوتي خانني فعاد قبل أن أسمح له بذالك .. عاد وأعادني معه إلى حيث كنت , عدت لأجد نفسي فوق سريري بعد أن استيقظت من نومي و أيقظت كل من كان غارقاً في نومه تلك الليلة , عدت لأجد أنه لم يكن سوى حلم .. حلم راودني ياليتني ما استيقظت منه ياليتني بقيت أسيرته , لكنه الواقع الذي يُحتّم علينا العيش فيه ربما أكون عدتُ من هناك لكني عدتُ وحدي ؛ عدت تاركةً قلبي هناك تركتُه في حضن الأقصى الأسير يواسيه و يمسحُ دمعَه المنهمرَ إلا أن يحينَ اللقاء .. لقاءٌ لن يطولَ بسواعدٍ باتت بثقةِ الله ووعده بالنصر القريب موقنة .